الاثنين، 21 يوليو 2014

التطور الموجه


أخي الفاضل، سعادة الدكتور محمد العوضي...
تحياتي وسلامي لسيادتكم... ودعواتي لكم بتمام الصحة والعافية استرجعت في الايام السابقة بعض حواراتنا خلال زيارتي السابقتين للكويت، وايضاً عبر الهاتف، حول نظرية التطور في علم البيولوجيا، وقد حدث ذلك كرد فعل لما يسود في اعلام دول الخليج هذه الايام من حوارات حول الإلحاد، الذي كاد ان يصبح ظاهرة تعصف بعقول بعض شبابنا ومفكرينا.
أخي الفاضل، اسمح لي ان اعرض على المثقفين العرب - من خلال منبركم - بعضاً من المفاهيم حول هذه القضية الخطيرة:
أولاً: الالحاد المعاصر إلحاد علمي، نشأ في تربة أوروبية خالصة، وبالرغم من تعدد اسبابه وتشابكها، فان اهمها هو «عدم مجاراة الخطاب الديني الكنسي» في العصور الوسطى في اوروبا لمستجدات العلم التجريبي، وكذلك اضطهاد الكنيسة للعلماء وتكفيرهم، اذ اعتبرت بعض ما طرحه العلم من جديد خروجا على ثوابتها الدينية.
لقد ادى ذلك الموقف الى رفض العلم والمجتمع لمفاهيم الدين، حتى وصل الامر الى ان اصبح نصف اساقفة الكنيسة الانكليزية في القرن الثامن عشر من الملاحدة!
ثانيا: زاد الامر تعقيداً، موقف «المؤسسة الدينية» في الغرب، الرافض لنظرية التطور التي طرحها تشارلس دارون في منتصف القرن التاسع العشر بذلك وضعت المؤسسة الدينية نفسها حكماً على المفاهيم العلمية، وكلما قدم العلم المزيد من الادلة على صحة مفهوم التطور زاد رفض المجتمع للدين.
وقد حسم الصراع نهائياً لصالح مفهوم التطور، عندما اعلن الاتحاد الاميركي لتقدم العلوم AAAS وهو اكبر هيئة علمية في العالم، اذ يضم مئة وخمسين الف عالم من جميع الدول (ان مفهوم التطور قد صار بمثابة الحقيقة العلمية المحورية في علم البيولوجيا).
ثالثا: تشتمل نظرية دارون على مفهومين اساسيين: الأول، ان هناك سلفاً مشتركاً لجميع الكائنات الحية، وان تلك الكائنات قد تطورت رقياً حتى وصلت الى انسان.
والمفهوم الثاني، ان هذا التطور قد وقع نتيجة لطفرات عشوائية حدثت بالصدفة، والعلم اذ يقدم الادلة على وقوع التطور فهذا اثبات لصحة المفهوم الاول، اما ان التطور قد حدث عشوائياً فذلك امر لا يقدر العلم على اثباته، بل ان العلم الحديث يؤكد استحالة ان تكون العشوائية وراء خلق الانسان، هذا الكائن الاستثنائي شديد التعقيد لذلك ينبغي ان نفرق بين «مفهوم التطور» وهو ما اثبته العلم وبين «نظرية التطور لدارون» التي نرفض قولها بالخلق العشوائي.
رابعا: «ان الطرح المقبول والذي يجمع بين الطرح الديني والطرح العلمي في عملية الخلق، هو مفهوم «التطور الموجه» او «التطور اللادارويني» والذي يعرف ايضاً باسم «التطوير الالهي» ويبين هذا المفهوم ان الله عز وجل وجه عملية التطور حتى وصلت الى اسلاف الانسان، وعندها قام الخالق جل شأنه - من خلال التدخل المباشر بتسوية احد هذه الاسلاف ادم عليه السلام (والنفخ فيه من روحه، وبذلك صار ادم ابوالبشر، الذي بدأ خلق سلفه الأول)، الخلية الاولى (من طين) «وبدأ خلق الانسان من طين» (صدق الله العظيم)، ولاشك ان هذا الاصل التطوري لايتعارض مع تميز الانسان، فتميزنا كبشر انما هو بنفخة الروح وليس بالجسد.
وأؤكد لكم ان آيات خلق الانسان في القرآن الكريم يمكن فهمها في سلاسة ووضوح في ضوء مفهوم الخلق التطوري، وقد جمعت في الفصلين الآخيرين من كتابي «كيف بدأ الخلق» بعضاً من اجتهادات بعض العلماء الافذاذ في ذلك الشأن فيمكن للقارئ الرجوع اليها.
خامساً: اصدرت الكنيسة الكاثوليكية عام 1996 بياناً أعلن فيه البابا يوحنا السادس ان الكنيسة لا تعارض كلمة العلم بأن الانسان قد خلق تطوراً، طالماً نؤمن بأن الله عز وجل هو الذي نفخ فيه الروح كذلك يقوم شراح سفر التكوين الآن وعلى رأسهم عالم اللاهوت الكبير س. ك لويس (C.S.Lewis) بتفسير الآيات المتعلقة بخلق الانسان في التوراة في ضوء مفهوم التطور.
هكذا تبادر المؤسسات الدينية في العالم الغربي الى المصالحة مع العلم، حماية لشبابها من الانجراف في طوفان الالحاد ألسنا نحن، اصحاب المنهج الحق، اولى بتبني كلمة العلم، حتى لا نسقط في نفس الدرك الذي وقعت فيه اوروبا منذ بداية العصر الحديث، ومازالت تتخبط فيه حتى الآن؟
سادساً: سيدي، هل يعلم قراؤك الكرام ان عدداً من اساتذة احدى كليات الطب في احدى بلادنا العربية قد شكلوا مجموعة اطلقت على نفسها اسم «ملاحدة الكروموسوم البشري الثاني!؟» يالله، ما حكاية هذا الكروموسوم البشري الذي جر بعض صفوة الأمة الى الالحاد؟ اليكم التفاصيل كما ذكرها فرانسيس كولينز رئيس مشروع الجينوم البشري (في كتابه لغة الاله):
اذا قارنا جينوم الانسان بجينوم الشمبانزي، وجدنا ان الاول يحتوي على 23 زوجا من الكروموسومات، بينما يحتوي الثاني على 24 زوجاً، لقد اتخذ الرافضون للتطور من ذلك دليلاً على موقفهم فاختلاف عدد الكروموسومات ليس بالشيء الهين.
لكن بتدقيق النظر في الكروموسوم البشري الثاني، وُجد انه يحتوي على الجينات الموجودة على كروموسومين من كروموسومات الشمبانزي، وهما (2B - 2A).
وتفسير ذلك ان السلف المشترك بيننا وبين الشمبانزي وبقية الرئيسيات كان لديه 24 زوجا من الكروموسومات، ثم حدث اندماج بين كروموسومين من كروموسومات بعض افراده، فشكل هؤلاء الفرع التطوري الذي نشأ منه الانسان.
واصبح عدد كروموسوماتنا 23 زوجاً، بينما بقيت كروموسومات الفرع الذي نشأ منه الشمبانزي دون اندماج.
ليس الامر هكذا فقط فاذا عرفنا ان كروموسومات خلايا جميع الكائنات الحية تحتوي في اطرافها على تكوين يعرف باسم «تيلومير» Telomere - مسؤول عن تحديد سر الخلية (فقد وجدت التيلو ميرات في طرفي الكروموسوم البشري الثاني كالمعتاد)، بالاضافة الى تيلوميرين وجدا في منتصف هذا الكروموسوم، مما يؤكد انه يتكون من كروموسومين منفصلين تم اندماجهما.
كذلك اذا اعتبرنا ان في منتصف الكروموسومات منطقة واحدة تسمى «السنترومير Centromere» - مسؤول عن تنظيم انقسام الكروموسوم، فقد وجد العلماء (2) سنترومير في الكروموسوم البشري الثاني احدهما نشيط والاخر خامل ما يعني ان هذا الكروموسوم قد تكون من اندماج كروموسومين منفصلين لكل منهما السنترومير الخاص به.
ويعلق د. أحمد مستجير العالم واستاذ البيولوجيا الجزيئية السابق بجامعة القاهرة على ذلك قائلاً: «يبدو ان الدليل الذي يقدمه الكروموسوم البشري الثاني على وجود السلف المشترك الذي يجمع بيننا وبين بقية الرئيسيات وخاصة الشمبانزي دليل دامغ لايمكن دحضه!».
سيدي ماذا انت قائل لرجال ألحدوا بعد ان قدم لهم علم البيولوجيا الجزيئية علم الجينات الدليل العلمي الذي لايدحض - وغيره من الادلة كثير - على الاصل المشترك الذي يجمع بين الانسان وبقية الرئيسيات، وفي نفس الوقت نواجههم بخطاب ديني يرفض مفهوم التطور؟
سيدي... لماذا نضع عقول صفوة الامة وعقول شبابنا في هذه الفتنة، والمخرج منها بين ايدينا. هو ما طرحناه في «رابعاً» و«خامساً»؟
سيدي: ما اشبه الليلة بالبارحة...
اسمح لي بهذا المقال، من خلال منبركم، ان ادق اجراس الخطر... ان تبني الكثيرين موقفاً رافضاً لمفهوم التطور - وغيره من حقائق العلم - يجعلنا في موقف مشابه لموقف اوروبا، عندما رفضت الكنيسة المستجدات العلمية، فكانت النتيجة أعتى موجة إلحاد في تاريخ البشر... موجة مازالوا حتى الآن في ذروتها.
سيدي... أخشى ان تتشابه المقدمات، فتتشابه النتائج.
سيدي... اختم رسالتي بأن اقول ان مجابهة الالحاد لاتكون بالرفض والقهر والبطش، ولكن تكون بمقارعة الحجة بالحجة، خاصة واننا صرنا نحيا في زمان قول الحق عز وجل سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق».
صدق الله العظيم
والله تعالى أعلى وأعلم

أخوكم
الدكتور عمرو شريف
* يعتبر الدكتور عمرو شريف من أبرز الكتاب الذين أثروا المكتبة العربية بمؤلفات جادة في مناقشة أسس ومنطلقات وحجج الفكر المادي الالحادي وقد ذاعت كتبه (رحلة عقل) و(كيف بدأ الخلق) و(المخ ذكر أو انثى) واخيراً (ثم صار المخ عقلاً)... ويمثل المقال أحد اجتهاداته واختياراته في هذا السياق.

هناك تعليقان (2):

  1. مع احترامي للدكتور عمرو شريف لكني اعترض على قوله ان الموقف قد حسم في الغرب لصالح التطور ، وارحو مراجعة دحض التطور من قبل د. اياد القنيبي حفظه الله ، وقراءة كتاب ايقونات التطور لجوناثان ويلز

    ردحذف
  2. مع احترامي للدكتور عمرو شريف لكني اعترض على قوله ان الموقف قد حسم في الغرب لصالح التطور ، وارحو مراجعة دحض التطور من قبل د. اياد القنيبي حفظه الله ، وقراءة كتاب ايقونات التطور لجوناثان ويلز

    ردحذف