هو يحيى بن محمَّد بن هُبَيرة، ويُكنى أبا المظفَّر، ويُلقَّب بعون الدِّين، وينعت بالوزير العادل.
سعَى لكسبِ الرِّزق، فعمل في المخازن السلطانيَّة، فتجلَّتْ أمانتُه وكفاءته، فقُلِّد الإشرافَ والرِّقابة على المخازن، فبان نصحُه، فتولَّى في سنة 542هـ رئاسةَ المخازن؛ أي: صاحب الديوان.
ظهَر للخليفة العباسي المقتفي بأمر الله (555هـ) كفاءةُ ابن هبيرة للقيام في مهامِّ المُلْك، فاستدعاه في سنة 544هـ إلى داره وقلَّده الوَزارة، وهو أمر يدلُّ على وجود الفُرْصة المتاحة لكلِّ مسلمٍ للوصول إلى أعلى المناصِب على أساس من الكفاءة والجدارة.
شيوخ ابن هبيرة:
ثبَت باستقراء الواقِع أنَّ المرء يتأثَّر بمَن حوله مِن والديه وأساتذته وأصحابه، وتتكوَّن مبادئه وقِيُمه منهم، وإنِ اختلفت درجةُ التأثير، ولعلَّ أكثرَها أثرًا التي تكون في سِنِّ الحداثة، وقد أشرْنا من قبلُ أنَّ والد ابن هبيرة كان جنديًّا ولم يكن مِن أهل العلم، وإنْ كان يبدو لنا أنه قد غرَس في ولده حبَّ العلم؛ لأنَّ الوالدَ في غيرِ قليل من الأحيان يَودُّ أن يُحقِّق ذاته في أولاده، ويُعوِّض ما حُرِم منه فيهم، وصادَف ذلك ميلاً أصيلاً لدَى ابن هبيرة مِن حبِّ العلم وطلبه.
وقد تأثَّر ابنُ هبيرة بأخلاقِ أساتذته، ولعلَّ عُمقَ زهد ابن هبيرة يرجِع إلى الزبيدي (الواعِظ الزاهِد) المتوفَّى 555 هـ،
أخلاق ابن هبيرة:
يبدو لنا أنَّ الوزيرَ ابنَ هُبَيرة كان عبدًا لله تقيًّا، يلتزم بأوامره، ويبتعد عن نواهيه، ويتمسَّك بسُنَّة رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويقتدي به، فكان على خُلُق عظيم، فقد كانتْ غايته إرضاءَ الله - سبحانه وتعالى - وتقديمَ صالِح الأعمال، والإسهامَ في العمل النافع، وكان متواضعًا لله، يحاسِب النفْس، ويصبر في الشدَّة، ويعفو عندَ المقدِرة، فلم يكن غريبًا أن يكونَ مستجابَ الدعوة، وأن يُحقِّق الله رجاءَه وينتهي أجلُه شهيدًا.
فمِن مَظاهر إيمانِه وثِقته بالله وورعه:
أنَّه قد ضاقتْ يدُه في مطالِع حياتِه حتى فقدَ القوت أيَّامًا، فخرَج مِن بلدته قاصدًا بغداد للعمل، وفي الطريقِ رأى مسجدًا مهجورًا، فدخَل وصلَّى فيه ركعتَيْن، وإذ بمريض ملقًى على حصيرة قديمة متهالكة، فقعد عندَ رأسه، وسأله عمَّا يشتهي؟ فقال: سفرجلة، فخرَج إلى بقَّال، ورهَن مِئزره على سفرجلتين وتفاحة وأتَى بهما، فأكَل المريض من السفرجلة ثم أمرَه بغَلْق باب المسجد، فأغْلَقه، فأعْطاه وعاءً صفيحيًّا، وقال: خذْ فأنتَ أحقُّ به، فسأله ابنُ هبيرة عمَّا إذا كان له وارثٌ، فقال: لا، وإنَّما لي أخٌ وعهْدي به بعيد، وبلغَني أنه مات، ونحن مِن الرصافة، ثم مات أثناءَ حديثِه، فغسَّله ابنُ هُبيرة وكفَّنه ودفَنه، ثم أخَذ (الكوز)، وفيه مقدارُ خمسمائة دِينار، ومضَى إلى دجلةَ ليعبرها، فإذ بملاَّح في سفينة عتيقة، وعليه ثيابٌ رثَّة، فقال: معي معي، فنزَل معه، وإذا به مِن أكثرِ الناس شبهًا بذلك الرَّجل، فسأله: مِن أين أنت؟ فقال: من الرصافة، ولِي بنات، وأنا صُعلوك، فسأله: ما لك أحدٌ؟ قال: لا، كان لي أخٌ، ولي عنه زمان ما أدري ما فَعَل الله به.
فقال ابنُ هبيرة له: ابسطْ حِجرَك، فبسَطَه، فصبَّ المال فيه، فبُهِت: فحدَّثه الحديث، فطلَب منه أن يأخذَ نِصفَه، فقال: لا.
والشاهد مِن هذه الواقعة أنَّه على الرغم مِن شِدَّة حاجة ابنِ هُبَيرة إلى المال، وقد جاءَه هِبة مِن صاحبه، بَيْدَ أنه لورعه وتقواه رأى أنَّ النِّية الحقيقية لصاحِب المال أن يصِلَ إلى ورثته، فإن عُدِم ذلك فله، وأنَّ الوارث أحقُّ بأموال المورّث وإنْ وهب المورّث المال لغيرِ الوارث.
واقعة أخرى: ذُكِر مرَّة في مجلسه مفردةٌ للإمام أحمد تفرَّد بها عن الثلاثة (أبي حنيفة، مالك، الشافعي)، فادَّعى أبو محمد الأشتري المالكي أنها روايةٌ عن مالك، ولم يُوافقْه على ذلك أحدٌ، وأحضر الوزير كتبَ مفردات أحمد، وهي منها، والمالكي مقيمٌ على دَعواه، فقال له الوزير: بهيمةٌ أنت؟ أمَا تسمع هؤلاء الأئمَّة يشهَدُون بانفِرادِ أحمد بها، والكتب المصنَّفة، وأنت تُنازِع؟ وتفرَّق المجلس.
فلمَّا كان المجلس الثاني، واجتَمَع الخلق للسَّماع، أخَذ ابن شافِع في القراءة، فمَنَعه ابن هُبَيرة، وقال: قدْ كان الفقيه أبو محمَّد جريئًا في مسألة أمس على ما لا يَلِيق به عن العدولِ عن الأدب، والانحراف عن نهجِ النظَر، حتى قلت تلك الكلمة، وها أنا، فليقل لي كما قُلْت، فلستُ بخيركم، ولا أنا إلاَّ كأحدِكم، القصاصَ القصاصَ، ولكنْ أبو محمد الأشتري صفَح عنه.
ومن صُوَرِ شَجاعته:
أنَّه حضَر يومًا في دار الخِلافة، وحضَر أرباب الدولة جميعًا للصلاة على جنازة الأمير إسماعيل بن المستظهر، فسقَطتْ مِن السقف أفعى عظيمةُ المقدار على كَتِف الوزير، فما بقِي أحدٌ من أرباب الدولة وحواشي الخدمة إلا خرَج أو قام عن موضعه إلاَّ الوزير، فإنَّه التفتَ إلى الأفعى، وهي تَسْرَح على كُمِّه حتى وقعتْ على الأرض، وبادَرَها المماليك فقتَلُوها، ولم يتحرَّك الوزير مِن مكانه، ولا تغيَّر في هيئته ولا عِباراته.
ومِن صور الصبر على المصيبة :
واحتِسابِ الأجْر عندَ الله والحِرْصِ على متابعةِ مجلس الحديث: أنَّ المجلسَ كان غاصًّا بوُلاة الدِّين والدُّنيا والأعيان الأماثل، وابنُ شافِع يقرأ الحديث، إذ بصُراخٍ بشعٍ وصِياح يرتَفِع من بابِ الستر وراءَ ظهْر الوزير، واضطَرَب المجلسُ وارْتاع الحاضرون، والوزير ساكنٌ ساكِت، حتى أنهَى ابنُ شافع قراءةَ الإسناد ومتنه، ثم أشار الوزيرُ إلى الجماعة: على رِسلِكم (استَأذَن)، ثم قام ودخَل إلى الستر ولم يلبثْ أنْ خرج، فجلس وتقدَّم بالقراءة، فدعا له ابن شافع والحاضرون: وقالوا: قد أزعجَنا ذلك الصياحُ، فإنْ رأى مولانا أنْ يُعرِّفنا سببَه، فقال الوزير: حتى ينتهي المجلس، وعاد ابن شافع إلى القراءة حتى غابتِ الشمس وقلوب الجماعة متعلِّقة بمعرفة الحال، فعاوَدُوه فقال: كان لي ابنٌ صغيرٌ مات حين سمعتُم الصياح، ولولا تعيُّن الأمر بالمعروف في الإنكار عليهم ذلك الصياحَ، لمَا قمتُ عن مجلسِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعَجِب الحاضرون من صبرِه.
ومِن صُور عفْوه عندَ المَقدِرة:
قَدِمَ رجلٌ ومعه آخرُ ادَّعى عليه أنَّه قتَل أخاه، فقال له الوزير: أقتلتَه؟ قال: نعم؛ جرَى بيني وبينه كلامٌ فقتلتُه، فقال الخصم: سلِّمه إلينا حتى نقتلَه فقد أقرَّ بالقتل، فقال عون الدين: أطلقوه ولا تقتلوه، قالوا: كيف ذلك، وقد قتَل أخانا؟! قال: فتبيعُونِيهِ؟ فاشتراه منهم بسِتمائة دينار، وسلَّم الذهب إليهم وذهبوا، وقال للقاتل: اقعدْ عندنا لا تبرح، قال: فجلس عندَهم، وأعطاه الوزير خمسين دينارًا.
يقول ابنُ الجوزي فسألنا الوزير: لقد أحسنتَ إلى هذا، وعملت معه أمرًا عظيمًا، وبالغتَ في الإحسان إليه!
فقال الوزير: منكم أحدٌ يعلم أنَّ عيني اليمنى لا أبصر بها شيئًا؟
فقلنا: معاذ الله! فقال: بلى والله، أتَدْرون ما سبب ذلك؟ قلنا: لا، قال: هذا الذي خلَّصتُه مِن القتل جاءَ إليَّ، وأنا في الدور، ومعي كتابٌ في الفقه أقرأ فيه، ومعه سلَّة فاكهة، فقال: احملْ هذه السلَّة، فقلت له: ما هذا شغلي، فاطلبْ غيري، فشاكَلَني ولكَمَني، فقَلَع عيني، ومضَى، ولم أرَه بعدَ ذلك إلى يومي هذا، فذكرتُ ما صنع بي، فأردتُ أنْ أقابل إساءتَه إلي بالإحسان مع القُدْرة.
نقف مبهورين إزاءَ هذه الواقعة، الوزير يَسْعَى إلى فكِّ خصمه من يد غيره، ولا تثريبَ عليه إنْ سلَّم الخصم لأهل القتيل للقصاص منه، بل كان يُعَدُّ إنزالاً لحكم الشرع في الواقِعة، وإشفاءً لغليل نفس فقَدَتْ بصرها بيدٍ آثمة، ولكنَّ الشخصيَّة التي تغلغلتْ فيها تعاليمُ الإسلام تُطبِّق قول الله - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34]، تطبيقًا على النفس قبل أن تُطبِّقه على الغير، فحق قول الله - تعالى - في وصفها: ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 35].
ومِن صور تمسُّكه بالسنَّة:
أنَّه لَمَّا استَطال السُّلطان مسعود وأصحابه وأفسَدُوا عزمَ ابن هُبَيرة والخليفة على قِتالهم ثم فكَّر، فرأى أنَّه ليس من الأصوب مُجاهرتُه لقوَّة شوكته، فدخَل ابن هُبَيرة على المقتفي وقال: إني رأيتُ أن لا وجهَ في هذا الأمر إلاَّ الالتجاء إلى الله - تعالى - وصِدق الاعتماد عليه، فبادَرَ الخليفة إلى تصديقه، وقال: ليس إلاَّ هذا، ثم كتَب للخليفة: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد دعا على "رِعْل" و"ذكوان" شهرًا، ويَنبغي أن ندعو نحن شهرًا، فأجابَه بالأمر بذلك.قال الوزير: ثم لازَمتُ الدعاء في كلِّ ليلة وقتَ السَّحَر، أجلس فأدعو الله - سبحانه - فماتَ مسعود لتمامِ الشهر لم يزدْ يومًا ولم ينقص يومًا، وأجابَ اللهُ الدعاء، وأزال يدَ مسعود وأتباعه عن العِراق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق