المعتمد بن عباد ملك أشبيلية كانت فيه أخلاق الملوك وكان له سمت الملوك وطريقتهم وهيبتهم كان ممدحاً كريماً وكان شاعراً حكيماً أديباً وكان ينتمي إلى أصل عربي عريق إذ كان من نسل المنذر بن ماء السماء من عرب العراق واسمه محمد بن إسماعيل بن عباد وجده عباد قاضي أشبيلية ثم قوي نفوذه حتى صار ملكها وجاء بعده ابنه المعتضد وتلاه حفيد المعتضد الذي نحن بصدد سيرته فكان فارساً معلماً شجاعاً وعالماً أديباً محسناً جواداً كبير الشأن وكان أفضل ملوك بني عباد الذين حكموا أشبيلية ذكره ابن خلقان فقال: كان أندى الملوك راحة وأرحبهم ساحة وكان بابه محط الرجال وكعبة الآمال وله شعر غاية من الحكمة والرصانة والجمال وقال عنه الشاعر ابن اللبانة:
ملك المعتمد من الحصون مائتي حصن وولد له مئة ولد وثلاثة وثلاثة وسبعون ولداً وكان لمطبخه في اليوم ثمانية قناطير من اللحم أي قرابة ثلاثمئة وخمسين كليو جراما وقد عاش ابن عباد في أيام ملوك الطوائف وهم ملوك تقاسموا الدولة الأموية في الأندلس وحكم كل واحد منهم جزءاً أو دويلة حتى بلغ مجموع تلك الدويلات إحدى وعشرين دولة، لكل دولة منها عرش وملك وجيش ضعيف وكان يعيش بين تلك الدول ملك نصراني متعصب شديد العداوة للإسلام وكان خبيثاً نهازاً للفرص إذا رأى خلافاً بين ملكين من ملوك الطوائف غذاه بالدسائس حتى أوقع العداوة بين كثير منهم، ولما رأى ضعفهم وتفرقهم فرض على كل واحد منهم جزية يؤديها للدولة المسيحية وكان من ضمن من أدوا له الجزية المعتمد بن عباد ملك أشبيلية ولما رأي ذلك الملك النصراني أن ملوك المسلمين يظهرون له خضوعاً وتذللاً هجم على طليطلة فاجتاحها واحتلها رغم أنف صاحبها القادر بن ذي النون، ثم أراد أن يهين المعتمد بن عباد فأرسل له رسولاً ومعه خمسمئة فارس يحمل رسالة تهديد من الفونسو بأن على المعتمد أن يتنازل عن حصون معينة وأن الجزية وحدها لا تكفي وحشد الرسالة بالتهديد الوقح فثارت في المعتمد شهامة الإسلام وجمع العلماء فاتفقوا على الاستنجاد بزعيم المرابطين يوسف بن تاشفين في الشمال الأفريقي وتم القرار في الحال، فأمر المعتمد بقتل الفرسان النصارى جميعاً وضرب الرسول وبصق في وجهه فعاد كاسفاً ذليلاً، وفي الحال أصدر بن تاشفين نداء بالجهاد فتسابق شباب المسلمين إلى ساحة الشرف وأقبل المطوعون من أرجاء البلاد حتى ازدحمت البلاد بالمجاهدين المسلمين وأقبل الفونسو في أربعين ألف جندي وكتب إلى أمير المسلمين ابن تاشفين يتهدده فكتب له على ظهر خطابه (جوابك هو ما سوف ترى) ثم التقى الجمعان في مكان قريب من بطليموس على حدود البرتغال في سهل واسع من الأرض يقال له الزلاقة
أقبل ابن تاشفين في قرابة مئة سفينة ونيف وعشرين ألف جندي واندفع إلى الزلاقة فوجد المعتمد بن عباد قد سبقه وقضى ليلة كاملة يهاجم وتنهشه الجراح وفي اللحظة المناسبة وصل المرابطون وقائدهم إلى قلب المعركة وتكامل عدد الكفار خمسين ألفاً وأرسل الفونسو إلى ابن عباد يقول له: اليوم الجمعة وهو عطلتكم وغداً السبت وهو يوم اليهود واليهود موظوفون عندي وبعده الأحد وهو يومنا فيكون ملتقانا الاثنين قالها وهو ينوي الغدر والإيقاع بالمسلمين يوم الجمعة لكن الملك المعتمد أدرك الحيلة فلما هجم الغدار وجد المعتمد يقظاً مستعداً فقامت معركة يشيب لهولها الولدان وأبلى المعتمد بلاْ عظيماً ووصل ابن تاشفين في أصعب المواقف فانقض على الجيش الغادر كالصاعقة وشُده النصارى وزلزلوا زلزالا شديداً وأخذتهم سيوف المعتمد من خلفهم وسيوف ابن تاشفين من بين أيديهم ووضع فيهم السيف فلم يفلت منهم أحد وهرب القائد النصراني في بضعة رجال وكانت الواقعة في يوم الجمعة الأولى من شهر رمضان حيث قتل جميع الجيش النصراني فلم يعد منهم سوى ثلاثمائة رجل
)وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (
بعد أن عاد يوسف ابن تاشفين من الزلاقة وبعد سنتين من هذه المعركة نما إلى علمه أنه استشرى الفساد في ملوك الطوائف في الأندلس فأخذ يقضي عليهم واحد تلو الآخر واستولى على الأندلس كلها وأنهى دولة بني عباد لإزالة دول الطوائف بعد أن استشرى فسادها وتهاونها، وأخذ المعتمد أسيراً مع أسرته وأرسله مكبلاً بالقيود إلى طنجة، ثم إلى مراكش، فسجن "أغمات" عند سفوح جبال الأطلس، حيث راح هناك يسترجع صور قصوره الإشبيلية، وما كان يزينها من شجر الزيتون، مترجماً بشعره كل لحظة من حياته السالفة، ونادباً حظه حتى وافاه أجله عام 488ه، في دور اتخذت له من الطين تحت أغصان النخيل، بعد أن حكم عشرين عاماً.
ولم يكتف ابن تاشفين بأسره وإذلاله، بل قتل جميع أبنائه الذكور، وأذل زوجته وبناته، فصرن يغزلن للناس من أجل لقمة العيش. يقول وقد جاءه العيد وهو في ذل الأسر :
ولم يكتف ابن تاشفين بأسره وإذلاله، بل قتل جميع أبنائه الذكور، وأذل زوجته وبناته، فصرن يغزلن للناس من أجل لقمة العيش. يقول وقد جاءه العيد وهو في ذل الأسر :
فقال رحمه الله يصف هذا المشهد الذي يقطع نياط القلوب:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
فجاءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة
يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة
أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في التراب والأقدام حافية
كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
من بات بعدك في ملك يسر به
فإنما بات الأحلام مغرورا
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
فجاءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة
يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة
أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في التراب والأقدام حافية
كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
من بات بعدك في ملك يسر به
فإنما بات الأحلام مغرورا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق